الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.مطلب: في الرضاع وعدة الوفاة والطلاق وما يجب فيهما ونفقة الأولاد والمعتدات: قال تعالى: {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} من مطلقهن: {حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ} أي يبلغ غايتها، لأن أقل الحمل ستة أشهر، فأكثر الرضاع سنتان لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} وهذا الأمر للندب لأن المطلقة لا تجبر على إرضاع ابن مطلقها إلا إذا لم يأخذ ثدي غيرها، وكذلك لا تجبر على الإرضاع حال قيام الزوجية، لأنه لو كان واجبا عليها لما استحقت الأجرة عليه المبينة بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} بقدر حالة الطرفين قدر الاستطاعة لا ضرر فيه ولا إضرار بالنسبة لليسار والإعسار وأمثالهما: {لا تُكَلَّفُ نَفْس إِلَّا وُسْعَها} قدر طاقتها: {لا تُضَارَّ والِدَة بِوَلَدِها} بأن ينزع منها إذا كانت تريد إرضاعه وتربيته، لأنها خير له وأسفق من يغرها مهما كانت قريبة له وهي أرفق به ولبنها أحسن له من لبن غيرها ومن اللبن المجمد أو الميبس لأن اللّه خلق لكل ما يليق به ويحسنه، وهو الذي أحسن كل شيء خلقه، وفي أخذه منها إضرار بها لانشغال فكرها عليه وضيق صدرها من فراقه و: {لا} يضار: {مَوْلُود لَهُ بِوَلَدِهِ} بأن يكلف أن يعطيها أكثر من أجر مثلها أو خارجا عن وسعه وطاقته، وأن لا تلقيه عليه بعد أن ألف إرضاعها فيكلف على المراجعة بإرغامها على إرضاعه لأن الولد يتضرر أيضا في هذه الحالة علاوة على ضرر أمه: {وَعَلَى الْوارِثِ} لأبي ولي الصغير: {مِثْلُ ذلِكَ} مثل ما على أبيه لو كان حيا، إذ يجب عليه أن يقوم مقام أبيه بحقه، وإذا كان للولد مال فنفقته من ماله لا على وليه ووارث أبيه، إلا أن الولي عليه أن يتولى ما له ويحافظ عليه وينميه له: {فَإِنْ أَرادا} الوالدان أو الولي والأم: {فِصالًا} فطاما قبل الحولين: {عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ} بينهما ومع الغير وظهر لهما بعد التروي أن فطامه بالسن الذي بلغ إليه حين إرادة الفصال لا يضره وتحقق ذلك لديهما بإخبار العارفين بذلك، واتفقا عليه: {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما} في فطامه ولا حرج ولا إثم، ولوليه أخذه منها إذا أسقطت حقها في حضانته أو سقطت بوجه من الوجوه الشرعية كزواجها بأجنبي أو تحقق عدم أمنها عليه، لأن الولد له لا لأمه، وقيل في المعنى:وإن تبين أن فطامه يضرّه فلا يجوز وتجبر على إمساكه إذا كان لا يقبل ثدي غيرها حتى يستغني، وإلا فيرضعه غيرها، ولهذا قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} غير أمهاتهم لعلة أو لغير علة وكان يقبل ثدي المرضعة: {فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ} في ذلك ولا إثم إذا كانت أمه راضية بذلك ولا مانع يمنعها من حضانته، لأن هذا جائز حتى حال قيام الزوجية فلأن يجوز بعدها أولى بشرط عدم تحقق الضرر بالولد وبما: {إِذا سَلَّمْتُمْ} أمه ما تراكم عليكم من نفقة وأعطيتم: {ما آتَيْتُمْ} الظئر الذي ترضعه ما تستحقه من الأجرة إذا لم تكن متبرعة حتى يأمنوا على الولد من الضرر، وليكن تسليمكم الأجرة لأمه أو لمرضعته: {بِالْمَعْرُوفِ} عن طيب نفس وليطيب قلب المرضعة وتزداد رغبة في النظر إلى الولد والمحافظة عليه كابنها فلا تفرط فيه، ولا تعتذر من عدم إرضاعه، ولا تهمله، ولا تنصرف عنه لما يشغلها عنه، وتراعيه حق رعايته: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أيها الآباء والأولياء والمرضعات والأمهات في حقوق الأولاد، فإن في مخالفتها ضياع الولد وهضم حقوق والديه وأوليائه إذا كان القصور من أمه، وحقوق أمه إذا كان القصور من أبيه أو وليه، وعلى المقصر الآثم: {وَاعْلَمُوا} أيها الأولياء والأمهات والمرضعات: {أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ} في الأولاد وغيرهم: {بَصِير} [233] في ظواهر أعمالكم وبواطنها فاحذروه وأحسنوا نياتكم.وفي هذه الجملة من التهديد ما هو غني عن البيان، وهذا هو الحكم الشرعي في الرضاع والحضانة وقد علمتم مدة الرضاع.أما الحضانة فهي سبع سنين للولد، وتسع للبنت على أصح الأقوال، والأصل فيها الاستغناء عن الخدمة عرفا بأن يستغنيا عن خدمة الأم في نظافتهما ولباسهما وأكلهما وشربهما، وإلا فلا، ولهذا الأمر في هذا الشأن للقاضي النقي الأمين ويفهم من الآية أن كلا من الأب والولي مكلف بنفقة المرضعة وكسوتها علاوة على حوائج الولد الضرورية حتى نهاية مدة الرضاع، أما في الحضانة فيكلف الولي بنفقة كافية للولد كافلة بجميع لوازمه وأجرة الحاضنة بمثابة خادمة له، وتختلف النفقة والأجرة باختلاف الأشخاص والأمكنة، ويراعى فيها قوله تعالى آنفا: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها} وقوله عز قوله: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} الآية والأحسن أن يكون باتفاق الطرفين ليعطيها المعطي عن طيب نفس ويأخذ الآخذ كذلك، وهي أحسن من التقدير بمعرفة الخبراء، لأن كلا منهما يميل لطرف غالبا، وقد لا يرضى بتقديرهما أحدهما أو كلاهما، والنفقة تثبت ويلتزم بها بالتراضي أو بحكم القاضي، وتعتبر من يوم الطلب سواء كانت في ماله أو في مال وليه لئلا يتضرر بالتسويف والمماطلة التي قد تكون من الولي أو من الحاكم قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ} يتركون: {أَزْواجًا} واحدة فأكثر أحرارا أو إماء: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} من الأيام.وجاء عشر بلفظ التأنيث لأن العرب إذا أبهمت في العدد من الليالي والأيام غلبوا الليالي حتى أن أحدهم يقول صمت عشرا من الشهر وذلك لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام، فإذا أظهروا الأيام قالوا صمنا عشرة أيام: {فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} بانقضاء هذه المدة: {فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ} أيها الأولياء: {فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ} من الزينة وغيرها حتى انقضت مدة حدادهن على أزواجهن أما في أثناء العدة فليس لهن التزيّن ولا الخضاب ولا غيره، وإذا فعلن أثمن وإذا لم ينههن أولياؤهن أثموا أيضا لما فيه من مخالفة أمر اللّه وإغضاب أولياء أزواجهن المتوفين: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِير} [234] لا يخفى عليه شيء من أحوالكم، قد أعلم اللّه تعالى عباده في هذه الآية أن عدة الوفاة غير عدة الطلاق، لأن الحزن فيها أشد منه، ولأن في الطلاق أمل المراجعة ولو بعد زوج آخر، وهذا الأمل منعدم في الوفاة، ولأن الطلاق قد يكون عن شقاق وعداوة ونفرة وهذه أيضا منعدمة في الوفاة غالبا، وجاءت عامة في كل من توفى عنها زوجها، إلا أن هذا العموم مخصوص فيما إذا كانت حاملة فإن عدتها تنقضي بوضع حملها حرة كانت أو أمة كما سيأتي في الآية 5 من سورة الطلاق، إذ جاءت مطلقة لم تقيد بقيد ما وعامة لما تخصص ومتأخرة في النزول عن غيرها إذ لم ينزل بعدها شيء في أمر العدة فيدخل في إطلاقها المعتدة عن طلاق أيضا فإنها بالوضع تنتهي عدتها كالمتوفى عنها زوجها.ويشترط لعدة الوفاة الإحداد وهو ترك الزينة حتى الكحل والطيب واللباس غير المعتاد للبيت والحلي وغيره، وعلى كل امرأة فقدت عزيزها أن تحد عليه على أن لا تزيد على ثلاثة أشهر إلا بالوفاة، فتكون أربعة أشهر وعشرة أيام.روى مسلم عن عائشة قالت: إن النبي صلّى اللّه عليه وسلم قال لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا.وهذا إذا مات عندها، أما إذا مات في غير بلد فتحد من يوم بلوغها خبر وفاته، لأن الغائب عنها زوجها لا تتزين عادة إذ يحرم عليها الزينة لغير زوجها.وقال أكثر العلماء إن الإماء عدتهن نصف عدة الحرائر سواء في الوفاة والطلاق.قال تعالى: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ} أشرتم ولوحتم، لأن التعريض هو أن يضمن المتكلم كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده وغير مقصوده، ولكن إشعاره بجانب المقصود أتم وأوضح، وأصله إمالة الكلام عن نهجه إلى عرض منه أي جانب منه، وكان يحول حوله ولا يظهره، كقول المحتاج جئت لأسلم عليك ويذكر حاجته تلويحا بما يريده، بخلاف الكتابة لأنها الدلالة على الشيء يذكر لوازمه وروادفة كقولك طويل النجاد لا طويل، وكثير الرماد للكريم، وعريض الوساد للبليد، وكقول المحتاج للغني أنا كالذي أي إن لفظ الذي يحتاج إلى الصلة كي يتم الكلام به، والفقير يحتاج للصلة ليسد عوزه فكل ما يوعز به: {مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ} المتوفّى رجالهن بطريق التعريض جائز، أما التصريح أثناء العدة فمحظور.هذا، وقد قال الشرنبلالي في حاشيته على الدرر هذا إذا كانت عن وفاة وكذلك إذا كانت عن طلاق فلا يجوز التعريض أيضا ولو كان بائنا كما في البيتين أي ضمن عدة الطلاق فقط وذلك واللّه أعلم حرمة لمطلقها الحي لأنه قد يتأذى والأذى معدوم في الميت، وحرمة الميت دون حرمة الحي، لأنه أفضل منه بما يصنع من عبادته لربه وخيره لخلقه وصلة لرحمه.والتعريض هو أن يقول فلانة صالحة جميلة فمن يرغب في نكاحها ويطلب تزويجها وأني محتاج للزواج إذا يسر اللّه لي مثلها، ويجوز أن يسمعها هذا القول بنفسه أو بالواسطة، فإذا كانت ترغب فيه حبست نفسها له وردت خطبة غيره.والخطبة بكسر الخاء كالجلسة من الخطيب بمعنى الشان أو من الخطاب بمعنى الاستلطاف بالقول.أما الخطبة بضم الخاء فهي خطبة الجمعة وشبهها.والتعريض بما ذكر مباح، وكذلك بما يتصوره في فكره أو يتخيله بقلبه لقوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} بأن عزمتم على زواج من توفى عنها زوجها وأصررتم عليه، فلا حرج ولا إثم في ذلك الإضمار مهما كان نوعه، لأنه غير منهي عنه، وهو عبارة عن حديث النفس الذي لا يؤاخذ عليه العبد وإنما أباح اللّه تعالى لكم هاتين الطريقتين ولم يؤثمكم عليهما لأنه: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} بين للناس وبين أنفسكم وفي قلوبكم بسائق الشهوة والتمني الذين لا يخلو أحد منهما: {وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا} بأن تتصلوا بهن وتقولوا لهن صراحة بأنكم تريدون الزواج بهن أو تأخذوا منهن عهدا أو ميثاقا على التزوج بكم وإذا كان هذا في السر منهيا عنه ففي الجهر من باب أولى وقال أكثر المفسرين أن كلمة {سِرًّا} هنا بمعنى نكاحا وزواجا أو جماعا أو زنى وكله خلاف الظاهر لأن اللّه تعالى أذن أول الآية بالتعريض ونهى في آخرها عن التصريح يؤيده قوله جل قوله: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا} بما يشابه الألفاظ المتقدمة ويجوز أن تتذاكروا مع وليها بمثل تلك الألفاظ وتزيدوا عليه بأنكم تحبون الانتساب إليه وترغبون بمصاهرته في المتوفى عنها زوجها لكمالها وأدبها ونسبها وحسنها فكل هذا لا إثم فيه ولا حرج في فعله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ} في العدة أو تحقنوا إجراءه أو تصمموا عليه فيما بينكم إذ ترك العزم على العقد واجب عليكم: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ} سمى اللّه العدة كتابا لأنها فرضت فيه وكتبت على البشر فإذا قضيت فلا محذور عليكم في الخطبة تصريحا وإجراء العقد علنا: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ} فضلا عما تتكلمون به شفاها: {فَاحْذَرُوهُ} أيها الناس لا تخالفوا أمره أو تروغوا عن تعاليمه: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُور} لما سبق منكم في هذا الشأن لأنكم لا تعلمون تحريمه ولم يسبق النهي عنه من قبل نبيكم لعدم تلقيه وحيا عنه: {حَلِيم} [235] يستر على عباده ما يقع منهم ولا يستفزه الغضب فيفضحهم حال ارتكابهم ما حرم عليهم بل يمهلهم ويؤخر عقوبتهم لعلهم يتوبون.قال تعالى: {لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} تجامعوهن {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} فلم تسموا لهن صداقا وهذه الجملة معطوفة على العقد المخفي وهذا التفسير أولى من جعل أو بمعنى إلا لأنه خلاف الظاهر وأن هذا النوع من أنواع الطلاق آت في الآية التالية وهو فيما إذا كان العقد لم يسم فيه مهرا وقد نزلت في رجل من الأنصار تزوج من بني حنيفة امرأة ولم يسم لها مهرا ثمّ طلقها فقال صلّى اللّه عليه وسلم أمتعها ولو بقلنسوة، ووجه نفي الحرج مع أنه لا حرج بالطلاق قبل المس أو بعده لما فيه من سبب قطع الوصلة ولهذا قال تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ} تطييبا لخاطرهن بما تطيب به نفوسكم أيها المطلقون من أنواع المتاع لا تضييق عليكم فيما تعطونه لها: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} بحسب إمكان الرجل ومكانته وإمكانه: {مَتاعًا بِالْمَعْرُوفِ} من غير حيف ولا عنف بلين ورفق وطيب نفس.واعلموا أن تمتع المطلقات كان ولا يزال: {حَقًّا} واجبا لازما لا ندبا ولا مباحا: {عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [236] معاملة النساء الذين يراعون حقوقهن ويرغبون في إرضائهن إجابة لإرادة ربهم وهذه المتعة هي المسماة الآن بنفقة العدة ويجبر الزوج عليها في كل الأحوال إلا إذا لم يختل بها إذ لا عدة عليها ولا نفقة عليه لأنها شرعت بمقابل حبس المرأة نفسها عن الزواج خلالها، أما إذا طلقت على هذه الصورة فينبغي أن يعطيها المتعة سواء اختلى بها أم لا لإطلاق الآية ولأنها عبارة عن تطييب قلبها لأنها قد يلحقها حيف وتهمة بسوء خلقها أو خلقها أو نسبها هذا إذا لم يكن الطلاق على طلبها وإلا لا.قال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ} أي يلزمكم نصف: {ما فَرَضْتُمْ} على أنفسكم من المهر المسمى عند العقد لا مهر المثل لأنه لا يرجع إليه إلا عند عدم التسمية: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} عنكم أو يسامحونكم به أنفسهن أو أولياؤهن برضائهن والنون في {يَعْفُونَ} ضمير جمع المؤنث ولهذا لم يسقطها الناصب إذ يستوي فيه الرفع والنصب، ومن قال إنه ضمير الرجال قال إن النون علامة الرفع ولم يسقطها الناصب لأن الفعل مبني لا يؤثر فيه الناصب كما لم تسقط الواو التي هي ضمير المذكر وإنما سقطت الواو التي هي لام الفعل وإسناده للنساء أولى بالمقام، يؤيده قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ} من أوليائهن إن كن قاصرات أو غير حائزات شروط التصرف لأن الولي هو القيّم عليها وقد يكون هو الذي زوجها وهو الذي ألزم الزوج مهرها ولذلك له أن يعفو عن المهر وغيره: {وَأَنْ تَعْفُوا} أيها الأولياء والنساء البالغات الحائزات حق التصرف عن نصف المهر المذكور أو عن بعضه فتبرئوا ذمة الأزواج منه فهو: {أَقْرَبُ لِلتَّقْوى} من أن تأخذوه وفي حالة العفو ينبغي للزوج أن يمتعها بما تسمح به نفسه تطييبا لخاطرها، ثم بين سبب العفو بقوله عز قوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} لأنكم تقاربتم بسبب هذا الزواج فليدم بينكم الإحسان لأن في الأخذ قطيعة له وسبب للتخاصم وفيه حث الطرفين على كرم الأخلاق وإذا عفى الزوج وترك المهر كله فهو أولى والفضل لمن تسمح نفسه بما يستديم به مودة الآخر إذ قد يؤدي هذا التسامح إلى الرجعة فلا يبقى محل للحقد والبغضاء والمشاحنة وهذا هو المعروف والإحسان المطلوبين في التفريق: {إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِير} [237] لا يضيع عمل عامل منكم فاعملوا خيرا لأنفسكم لتجدوا ثوابه عند ربكم القائل: {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ} المكتوبات: {وَالصَّلاةِ الْوُسْطى} خاصة وهي صلاة الصبح على أصح الأقوال لمزيد الاعتناء بها ولزوم المحافظة عليها لأنها ثقيلة على من لم يوفقه اللّه لفضلها، لأن من الناس من يغفل عنها ويعرضها للضياع فيصليها قضاء وهيهات الأجر بين القضاء والأداء، وإنما رجح كونها الصبح لأنها تصلّى بمفردها سفرا وحضرا لا تقصر ولا تجمع مع غيرها ولأنها واقعة بين جمعين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ولأنها في وقت يتكاسل فيه الناس للذة النوم ورطوبة الهواء في الصيف وشدة البرد بالشتاء وفتور الأعضاء وتمادي النعاس وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين المقدرين عظيم ثوابها فهي عليهم خفيفة سهلة يسرة يأتونها برغبة وطيب نفس، وهناك أقوال بأنها العصر أو الظهر وقد بيناها في الآية 79 من سورة الإسراء.وحجة من قال إنها العصر وقوعها بين صلاتي نهار وليل: الصبح والظهر، والمغرب والعشاء.وحجة من قال إنها الظهر وقوعها وقت اشتغال الناس ولأنها أول صلاة صلاها جبريل بالنبي محمد عليهما الصلاة والسلام ولأن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين كما ذكره بعضهم، إلا أنه لا يتجه لأن الصلاتين اللتين قبلها وبعدها مختلفتان.وحجة من قال إنها المغرب لضيق وقتها وانشغال الناس عنها بالأعمال والطعام والنزهة.وحجة من قال إنها العشاء كراهية الحديث بعدها إلا بخير وسنيّة تأخيرها إلى ثلث الليل لما فيه من قطع السمر المنهي عنه.ولكل وجهة وأحسنها أو لها لقوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُودًا} الآية: من الإسراء، أي يدونها ملائكة الليل والنهار لرؤيتهم لها بخلاف سائر الأوقات، وقال الشيخ محي الدين في فتوحاته إنها الوتر لقوله صلّى اللّه عليه وسلم: إن اللّه زادكم صلاة وهي الوتر ألا فصلوها إلخ، وقوله: «الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني» وكرره، ولختمه تعالى الآية بقوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ} وفيها القنوت. ومن أراد أن يصيبها يقينا فعليه المحافظة على كل الصلوات لأن الحكمة من إخفائها هذا كساعة الإجابة من يوم الجمعة وليلة القدر من رمضان والاسم الأعظم من الأسماء الحسنى ليستغرق العبد أوقاته في الدعاء والذكر والصلاة وإحياء الليالي فيصيب الهدف.{وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ} [238] خاشعين خاضعين لهيبته وعظمته في صلاتكم وصيامكم وذكركم وقيامكم ودعائكم مطيعين له في كل ما يأمر وينهى، وفي هذه الجملة إشارة إلى أنها الصبح لأن القيام من النوم يكون فيها، والقنوت الذي أخذ به الإمام الشافعي فيها، والخشوع فيها أكثر من غيرها لأن الإنسان ينتبه من نومه صافي القلب لم يشغله شاغل عدا ذكر اللّه، وإنما ذكر اللّه تعالى الصلوات في تضاعيف أحكام الزواج والطلاق والنفقات والرضاع إيذان بشدة الاعتناء بها والمثابرة عليها من غير اشتغال عنها بشأن أنفسهم وغيرهم، وتشير إلى لزوم المحافظة عليها.{فَإِنْ خِفْتُمْ} حال وقت أداء الصلوات من عدو أو غيره ولم تقدروا على الإتيان بها كاملة الأركان والشروط: {فَرِجالًا} أي ائتوا بها قياما لأنه أبلغ في الجواز: {أَوْ رُكْبانًا} إذا لم تأمنوا على أنفسكم حالة القيام وفي فعلها حيثما توجهت به دوايكم ماغ لكم أيضا، وسيأتي لهذا البحث تفصيل في الآية 101 من سورة النساء.: {فَإِذا أَمِنْتُمْ} من خوفكم هذا: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} صلوا كعادتكم وعبر بالذكر عن الصلاة لا شتمالها عليه ولأنه معظم أركانها: {كَما عَلَّمَكُمْ} من إكمال ركوعها وسجودها وإتمام خشوعها وخضوعها: {ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [239] شيئا قبل واحمدوا اللّه على ما علمكم، ويؤذن ذكر الصلاة وما يتعلق فيها بين تلك الآيات المتعلقة بالطلاق وتفرعاتها بالحث على العفو والنهي عن الترك وأخذ الفضل من المهور والإضرار بالنساء وغيره من جميع ما نهى عنه وأمر به، لأن الصلاة تهيء النفس لفضائل الأعمال كما يكمل بها فواضل الملكات لكونها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد جيء بها هنا كالاعتراض بين البحثين ليجمع بين التعظيم لأمر اللّه والشفقة على خلقه بالإعلام بأنها حقيقة هي معظم الدين المستعان بها على فروعه، وقد جاء في الحديث أنها عماد الدين ومعراج المؤمنين فمن قام بها حق القيام امتنع من الضرر والإضرار وأقدم على العفو والرفق والإحسان بخلق اللّه أجمع فضلا عمن كان بينه وبينهم صلة.قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجًا} ويوصون: {وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ} بأن يمتعن: {مَتاعًا إِلَى الْحَوْلِ} ويبقين في بيوتهن: {غَيْرَ إِخْراجٍ} منها فهؤلاء تجب نفقتهن في ماله إذا أوفين بوصية أزواجهن طيلة تلك المدة: {فَإِنْ خَرَجْنَ} من تلقاء أنفسهن إذ لا يجوز للورثة إخراجهن تنفيذا لوصية الميت المطلوب اتباعها: {فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ} أيها الوارثون ولا إثم وإنما يكون عليكم الإثم إذا أخرجتموهن وخالفتم الوصية أو قطعتم عنهن النفقة في تلك المدة ولا حرج عليكم بعد خروجهن قبل إكمال الحول أو بعده: {فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} كزينة معتادة ولباس طيب وغيره، لأن الحداد مطلوب في أربعة أشهر وعشرة أيام فقط التي هي مدة العدة بالنص المتقدم فإذا قضين هذه المدة فلهن أن يفعلن ما يشأن مما هو متعارف من زينة وطيب وأن يتزوجن بعدها ولا يجبرن على تنفيذ هذه الوصية للسبب الآتي: {وَاللَّهُ عَزِيز حَكِيم} 240 فيما شرع من الأحكام لعباده وما بين لهم من شرائعه.نزلت هذه الآية في حكيم بن الحارث الطائفي لما هاجر إلى المدينة وأبواه وزوجته وأولاده فلما مات رفع أمرهم إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلم فأعطى ميراثه لأبويه وأولاده ولم يعط امرأته شيئا لأن آية الميراث لم تنزل بعد وكانوا لا يورثون الزوجة وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها سنة كاملة إذ كانت العادة مطردة بأن الزوج بوصي لزوجته بذلك إذا أحبت البقاء سنة أو إلى تاريخ خروجها بإرادتها من بيت زوجها، لأن قضية التمتع إلى الحول ليس واجبا عليها بصريح هذه الآية بل مندوبا ومتوقفا على وصية الميت به فإن لم يوص فلا، ومما يؤكد الندب قوله تعالى: {فَإِنْ خَرَجْنَ} فلو كان واجبا لكان عليهن الإثم ولجاز منعهن من الخروج ولهذا فإنهن بالخيار من تنفيذ وصية زوجها ببقائها سنة أو خروجها بعد إكمال الأربعة أشهر وعشرة أيام إلا أن إكمال السنة أولى بحقها رعاية لحق زوجها.ومن قال إن هذه الآية منسوخة بالآية الأولى المبينة أن عدة الرفاة أربعة أشهر وعشرة أيام لأن الأمر فيها للوجوب لا وجه له لأن المقدم لا ينسخ المؤخر إجماعا، وما احتج به القائل بالنسخ على ظن أن هذه الآية التي نحن يصددها متقدمة في التلاوة متأخرة في النزول عن الآية الأولى عدد 235 كآية: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ} فإنها متأخرة في النزول عن آية: {سَيَقُولُ السُّفَهاءُ} المتقدمة في التلاوة يحتاج إلى دليل قطعي ولا شيء من ذلك، وغاية ما قاله المفسرون إنها متقدمة في المعنى، وهذا لا يضر ولا ينطبق عليه ما نحن فيه، والمعنى كهذه أيضا، لأن القائل لا يستند إلى دليل يؤيد قوله ولا إلى نقل صحيح، ولو فرضنا جدلا وقلنا إنها متقدمة في المعنى لا نقول بالنسخ لعدم وجود شرطه وهو التقدم نزولا وتلاوة ورتبة.ولا يقال أيضا إن هذه الآية ناسخة للآية الأولى لأن الأولى جاءت بلفظ الأمر وهذه على الندب وهو أدنى حالا من الأمر والأدنى لا ينسخ الأعلى لأنه أضعف منه بدرجات والضعيف لا ينسخ القوي كما أوضحناه في المقدمة في بحث النسخ.وغاية ما في هذه الآية الدلالة على أمر بن إعطائها النفقة والسكنى من مال زوجها حسب وصيته كما كان الأمر في الجاهلية وفي بداية الإسلام، وإبقائها في بيته سنة كاملة باختيارها تنفيذا لوصية زوجها، وهذا غير العدة الواجبة عليها لأنها على القطع وهذه على التخيير، فلو فرض أن أوصى الآن زوج زوجته بذلك ورضيت فلا مانع من تنفيذ وصيته شرعا كسائر وصاياه وعلى كل حال الأحسن أن تقضي الزوجة عدتها في بيت زوجها سواء كانت عدة طلاق أو عدة وفاة، ولكن الأمر الآن جار على خلافه فلا تجد مطلقة تبقى في بيت مطلقها يوما واحدا والقصور من الطرفين في هذا.قال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقاتِ} كلهن على اختلاف أنواع الطلاق: {مَتاع بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا} واجبا مفروضا: {عَلَى الْمُتَّقِينَ} ما نهى اللّه عنه كلّا أو جزءا وعليهم أن يتسامحوا في هذه المتعة ما استطاعوا تطييبا لقلوبهن وجبرا لخاطرهن، وقد أمتع الحسن بن علي رضي اللّه عنهما احدى مطلقاته بثمانية آلاف درهم وكان جوابها له متاع قليل من حبيب مفارق: {كَذلِكَ} مثل هذا البيان الواضح: {يُبَيِّنُ} اللَّهُ لَكُمْ: {آياتِهِ} المتعلقة بينكم وبين أزواجكم في حالتي الطلاق والوفاة ويمتنّ عليكم بتوضيحه: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} معانيها فتعملوا فيها وتعلموا الغزي منها أيها المؤمنون.هذا وقد جاءت هذه الآية مبالغة في زيادة البيان لجميع ما تقدم.وخلاصة الحكم الشرعي في هذا أن الرجل إذا تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ولم يسم لها مهرا ولم يختل بها فعليه المتعة فقط وأقلها ثوب وإزار وخمار، ولا حد لأكثرها بحسب ما تسمح به نفسه إذ لا عدة له عليها توجب حبسها عن الزواج بغيره كي يجبر على النفقة ولها أن تتزوج يوم طلاقها وإنما كانت المتعة تفضلا وكرما منه إذا كان الطلاق وقع بطلبها وإن كان عفوا منه كان عليه تطييب خاطرها بما تسمح به نفسه.ثانيا إذا تزوجها وسمى لها مهرا وطلقها قبل الدخول والخلوة فلها نصف المهر المسمى فقط ولا عدة عليها ولا نفقة لها عليه وله أن يمتعها بما تجود به نفسه أيضا.ثالثا إذا تزوجها ولم يسم لها مهرا وطلقها بعد الدخول والخلوة الشرعية فعليه مهر مثلها كأختها أو عمتها المشابهة لها بالحسن والبكارة والنسب والحسب وعليها العدة وعليه نفقتها وجوبا ما دامت في العدة.رابعا إذا تزوجها وسمى لها مهرا ودخل بها ثمّ طلقها فلها تمام المهر وعليه نفقة العدة وتسمى هذه المتعة في الحالات التي يجب على الزوجة فيها العدة نفقة عدة وفي الحالات التي لا تجب فيها العدة متعة.
|